الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وفرع الطيبي عليه عدم استقامة تشبيه ما في الآية هنا بما في الآية الأخرى لأن لكل من السارق يدين فيجوز الجمع، وأن تقطع الأيدي كلها من حيث ظاهر اللغة وكذا قال أبو حيان، وفيه نظر لأن الدليل قد دل على أن المراد من اليد يد مخصوصة وهي اليمين فجرت مجرى القلب والظهر؛ واليد اسم لتمام العضو، ولذلك ذهب الخوارج إلى أن المقْطع هو المنكب، والإمامية على أنه يقطع من أصول الأصابع ويترك له الإبهام والكف، ورووه عن علي كرم الله تعالى وجهه، واستدلوا عليه أيضًا بقوله تعالى: {فَوَيْلٌ لّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الكتاب بِأَيْدِيهِمْ} [البقرة: 79] إذ لا شك في أنهم إنما يكتبونه بالأصابع، وأنت تعلم أن هذا لا يتم به الاستدلال على ذلك المدعي، وحال روايتهم أظهر من أن تخفى، والجمهور على أن المقطع هو الرسغ، فقد أخرج البغوي وأبو نعيم في «معرفة الصحابة» من حديث الحرث بن أبي عبد الله بن أبي ربيعة «أنه عليه الصلاة والسلام أتي بسارق فأمر بقطع يمينه منه».والمخاطب بقوله سبحانه: {فاقطعوا} على ما في «البحر» الرسول صلى الله عليه وسلم أو ولاة الأمور كالسلطان ومن أذن له في إقامة الحدود، أو القضاة والحكام، أو المؤمنون أقوال أربعة، ولم تدرج السارقة في السارق تغليبًا كما هو المعروف في أمثاله لمزيد الاعتناء بالبيان والمبالغة في الزجر.{جَزَاء} نصب على أنه مفعول له أي فاقطعوا للجزاء، أو على أنه مصدر لاقطعوا من معناه، أو لفعل مقدر من لفظه، وجوز أن يكون حالًا من فاعل اقطعوا مجازين لهما {بِمَا كَسَبَا} بسبب كسبهما، أو ما كسباه من السرقة التي تباشر بالأيدي وقوله تعالى: {نكالا} مفعول له أيضًا ما قال أكثر المعربين وقال السمين: منصوب كما نصب {جَزَاء}، واعترض الوجه الأول بأنه ليس بجيد لأن المفعول له لا يتعدد بدون عطف واتباع لأنه على معنى اللام، فيكون كتعلق حرفي جر بمعنى بعامل واحد وهو ممنوع، ودفع بأن النكال نوع من الجزاء فهو بدل منه، وقال الحلبي وبعض المحققين: إنه إنما ترك العطف إشعارًا بأن القطع للجزاء والجزاء للنكال والمنع عن المعاودة، وعليه يكون مفعولًا له متداخلًا كالحال المتداخلة، وبه أيضًا يندفع الاعتراض وهو حسن، وقال عصام الملة: إنما لم يعطف لأن العلة مجموعهما كما في هذا خلو حامض والجزاء إشارة إلى أن فيه حق العبد، والنكال إشارة إلى أن فيه حق الله تعالى، ولا يخفى ما فيه فتأمل، ونقل عن بعض النحاة أنه أجاز تعدد المفعول له بلا اتباع وحينئذ لا يرد السؤال رأسًا، وقوله تعالى: {مِنَ الله} متعلق بمحذوف وقع صفة لنكالًا أي نكالًا كائنًا منه تعالى: {والله عَزِيزٌ} في شرع الردع {حَكِيمٌ} في إيجاب القطع، أو عزيز في انتقامه من السارق وغيره من أهل المعاصي حكيم في فرائضه وحدوده، والإظهار في مقام الإضمار لما مر غير مرة.ومن الغريب أنه نقل عن أبيّ رضي الله تعالى عنه أنه قرأ والسرق والسرقة بترك الألف وتشديد الراء، فقال ابن عطية: إن هذه القراءة تصحيف لأن السارق والسارقة قد كتبا في المصحف بدون الألف، وقيل: في توجيهها أنهما جمع سارق وسارقة، لكن قيل: إنه لم ينقل هذا الجمع في جمع المؤنث؛ فلو قيل: إنهما صيغة مبالغة لكان أقرب، واعترض الملحد المعري على وجوب قطع اليد بسرقة القليل فقال:
فأجابه ولله دره علم الدين السخاوي بقوله: وفي «الأحكام» لابن عربي (2 816) «أنه كان جزاء السارق في شرع من قبلنا استرقاقه، وقيل: كان ذلك إلى زمن موسى عليه الصلاة والسلام ونسخ، فعلى الأول: شرعنا ناسخ لما قبله، وعلى الثاني: مؤكد للنسخ». اهـ. .من فوائد ابن عاشور في الآية: قال رحمه الله:{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا...} الآية.جملة معطوفة على جملة {إنّما جزاء الّذين يحاربون} [المائدة: 33].{والسارق} مبتدأ والخبر محذوف عند سيبويه.والتّقدير: ممّا يتلى عليكم حكم السارق والسارقة فاقطعوا أيديهما.وقال المبرّد: الخبر هو جملة {فاقطعوا أيديهما}، ودخلت الفاء في الخبر لتضمّن المبتدأ معنى الشرط؛ لأنّ تقديره: والّذي سرق والّتي سرقت.والمصول إذا أريد منه التّعميم ينزّل منزلة الشرط أي يجعل «أَلْ» فيها اسم موصول فيكون كقوله تعالى: {واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهنّ أربعة منكم} [النساء: 15]، قوله: {واللّذان يأتيانها منكم فآذوهما} [النساء: 16].6 قال سيبويه: وهذا إذا كان في الكلام ما يدلّ على أنّ المبتدأ ذكر في معرض القصص أو الحُكم أو الفرائض نحو {واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدواواللذان يأتيانها منكم فآذوهما} {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما} إذ التّقدير في جميع ذلك: وحكم اللاتي يأتين، أو وجَزاء السارق والسّارقة.ولقد ذكرها ابن الحاجب في «الكافية» واختصرها بقوله: «والفاء للشرط عند المبرّد وجملتان عند سيبويه، يعني: وأمّا عند المبرّد فهي جملة شرط وجوابه فكأنّها جملة واحدة وإلاّ فالمختار النصب».أشار إلى قراءة عيسى بن عمر {والسارقَ والسارقَة} بالنصب، وهي قراءة شاذّة لا يعتدّ بها فلا يخرّج القرآن عليها.وقد غلط ابن الحاجب في قوله: فالمختار النصب.وقوله: {فاقطعوا أيديهما} ضمير الخطاب لِوُلاة الأمور بقرينة المقام، كقوله: {الزّانية والزّاني فاجلدوا كلّ واحد منهما مائة جلدة} [النور: 2].وليس الضّمير عائدًا على الّذين آمنوا في قوله: {يأيّها الّذين آمنوا اتّقوا الله} [النساء: 35].وجُمع الأيدي باعتبار أفراد نوع السارق.وثنيّ الضمير باعتبار الصنفين الذكر والأنثى؛ فالجمع هنا مراد منه التّثنية كقوله تعالى: {فقد صغت قلوبكما} [التحريم: 4].ووجه ذكر السارقة مع السارق دفعُ توهّم أن يكون صيغة التذكير في السارق قيدًا بحيث لا يجري حدّ السرقة إلاّ على الرجال، وقد كانت العرب لا يقيمون للمرأة وزنًا فلا يجرون عليها الحدود، وهو الدّاعي إلى ذكر الأنثى في قوله تعالى في سورة البقرة: (178): {الحُرّ بالحرّ والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى} وقد سرقت المخزوميّة في زمن رسول الله فأمر بقطع يدها وعظم ذلك على قريش، فقالوا: من يشفع لها عند رسول الله إلاّ زيد بن حارثة، فلمّا شفع لها أنكر عليه وقال: أتشفع في حدّ من حدود الله، وخطب فقال: إنّما أهلك الّذين من قبلكم أنّهم كانوا إذا سرق فيهم الشّريف تركوه وإذا سرق الضّعيف قطعوه، والله لو أنّ فاطمة سرقت لقطعت يدها.وفي تحقيق معنى السرقة ونصاب المقدار المسروق الموجب للحدّ وكيفية القطع مجال لأهل الاجتهاد من علماء السلف وأيّمة المذاهب وليس من غرض المفسّر.وليس من عادة القرآن تحديد المعاني الشّرعية وتفاصيلها ولكنّه يؤصّل تأوصيلها ويحيل ما وراء ذلك إلى متعارف أهل اللّسان من معرفة حقائقها وتمييزها عمّا يشابهها.فالسارق: المتّصف بالسرقة.والسرقة معروفة عند العرب مميّزة عن الغارة والغصْب والاغتصاب والخلسة، والمؤاخذة بها ترجع إلى اعتبار الشيء المسروق ممّا يشِحّ به معظم النّاس.فالسرقة: أخذ أحد شيئًا ما يملكه خُفية عن مالكه مخُرجًا إيّاه من موضععِ هو حرِزُ مثلِه لم يؤذن آخِذُه بالدخول إليه.والمسروق: مَا لهُ منفعة لا يتسامح النّاس في إضاعته.وقد أخذ العلماء تحديده بالرجوع إلى قيمة أقلّ شيء حكم النّبيء بقطع يد من سَرَقَه.وقد ثبت في الصّحيح أنّه حكم بقطع يد سارق حَجَفَة بحاء مهملة فجيم مفتوحتين «ترس بن جلد» تساوي ربع دينار في قول الجمهور، وتساوي دينارًا في قول أبي حنيفة، والثوري، وابننِ عبّاس، وتساوي نصفَ دينار في قول بعض الفقهاء.ولم يذكر القرآن في عقوبة السارق سوى قطع اليد.وقد كان قطع يد السارق حكمًا من عهد الجاهليّة، قضى به الوليدُ بن المغيرة فأقرّه الإسلام كما في الآية.ولم يرد في السنّة خبر صحيح إلاّ بقطع اليد.وأوّل رَجُل قطعت يده في الإسلام الخيارُ بن عدي بن نوفل بن عبد مناف، وأوّل امرأة قطعت يَدها المخزوميةُ مُرّةُ بنتُ سفيان.فاتّفق الفقهاء على أنّ أوّل ما يبدأ به في عقوبة السارق أن تقطع يده.فقال الجمهور: اليد اليمنى، وقال فريق: اليد اليسرى، فإن سرق ثانية، فقال جمهور الأيمّة: تقطع رجله المخالفة ليده المقطوعة.وقال عليّ بن أبي طالب: لا يقطع ولكن يحبس ويضرب.وقضى بذلك عمر بن الخطّاب، وهو قول أبي حنيفة.فقال عليّ: إنّي لأستحيي أن أقطع يده الأخرى فبأي شيء يأكُل وَيَسْتَنْجِي أو رِجْلَه فعلى أي شيء يعتمد؛ فإن سرق الثّالثة والرّابعة فقال مالك والشّافعي: تقطع يده الأخرى ورجلُه الأخرى، وقال الزهري: لم يبلغنا في السنّة إلاّ قطع اليد والرّجل لا يزاد على ذلك، وبه قال أحمد بن حنبل، والثّوري، وحمَّاد بن سلمة.ويجب القضاء بقول أبي حنيفة، فإنّ الحدود تُدرأ بالشبهات وأيّ شبهة أعظم من اختلاف أئمّة الفقه المعتبرين.والجزاء: المكافأة على العمل بما يناسب ذلك العملَ من خير أو شرّ، قال تعالى: {إنّ للمتّقين مفازًا} إلى قوله: {جزاءً من ربّك عطاءً حسابا} في سورة النبأ (31 36)، وقال تعالى: {وجزاء سيئة مثلها} في سورة الشورى (40).والنكال: العقاب الشّديد الّذي من شأنه أن يصدّ المعاقب عن العود إلى مثل عمله الّذي عوقب عليه، وهو مشتقّ من النكول عن الشيء، أي النكوص عنه والخوف منه.فالنكال ضرب من جزاء السّوء، وهو أشدّه، وتقدّم عند قوله تعالى: {فجعلناها نكالًا} الآية في سورة البقرة (66).وانتصب {جزاء} على الحال أو المفعول لأجله، وانتصب {نكالًا} على البدل من {جزاء} بدل اشتمال.فحكمة مشروعيّة القطع الجزاء على السرقة جزاء يقصد منه الردع وعدم العود، أي جزاء ليس بانتقام ولكنّه استصلاح.وضَلّ من حسب القطع تعويضًا عن المسروق، فقال من بيتين ينسبان إلى المعرّي وليسا في «السقط» ولا في «اللّزوميات»:ونسب جوابه لعلم الدّين السَّخَاوي: . اهـ.
|